عندما تحيط بالعبد الكروب، وتنزل به الملمات والخطوب، وتوصد جميع الأبواب، وتتقطع كل الأسباب، وينقطع حبل الرجاء من المخلوقين، يبقى حبلٌ واحد لا ينقطع، وباب واحد لا يغلق.
وهو باب السماء، والالتجاء إلى الله بالدعاء، وقد أخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم- عن قصة ثلاثة نفر تقطعت بهم الأسباب، وحل بهم الكرب والشدة، فلم يجدوا ملجأً إلَّا الله لينجيهم مما هم فيه، ويكشف كربهم.
والقصة رواها البخاري و مسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم.
فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعله يفرجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم فحلبت.
بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحِلاب، فقمت عند رءوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما.
والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء.
وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله.
اتق الله ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة، وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفَرَقِ أَرُزٍّ، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي.
فعرضت عليه حقه، فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه، حتى جمعت منه بقرا وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني، وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج ما بقي، ففرج الله عنهم) .
إنها قصة ثلاثة رجال، خرجوا من ديارهم لغرض من الأغراض، وبينما هم كذلك إذ نزل مطر غزير، فبحثوا عن مكان يحتمون فيه من شدة المطر، فلم يجدوا إلا غاراً في جبل.
وكانت الأمطار من الغزارة بحيث جرفت السيول الصخور الكبيرة من أعلى الجبل، فانحدرت صخرة من تلك الصخور، حتى سدت عليهم باب الغار، وكانت من العظم بحيث لا يستطيعون تحريكها فضلا عن دفعها وإزالتها.
ولا يوجد سبيل إلى إيصال خبرهم إلى قومهم، وقد أزالت الأمطار والسيول كل أثر يمكن عن طريقه الاهتداء إلى مكانهم، وحتى لو صاحوا بأعلى صوتهم فلن يصل إلى أبعد من جدران الغار الذي يحيط بهم.
وعندها تيقنوا الهلاك، ووصلوا إلى حالة من الاضطرار، فأشار أحدهم على أصحابه أن يتوسل كل واحد منهم إلى ربه بأرجى عمل صالح عمله، وقصد فيه وجه الله، فتوسل الأول ببره بوالديه حال كبرهما وضعفهما.
وأنه بلغ بره بهما أنه كان يعمل في رعي المواشي، وكان إذا عاد إلى منزله بعد الفراغ من الرعي، يحلب مواشيه، فيبدأ بوالديه، فيسقيهما قبل أهله وأولاده الصغار، وفي يوم من الأيام، ابتعد في طلب المرعى، فلم يرجع إلى المنزل إلا بعد أن دخل المساء.
وجاء بالحليب كعادته، فوجد والديه قد ناما، فكره أن يوقظهما من نومهما، وكره أن يسقي الصغار قبلهما، فبقي طوال الليل ممسكا بالإناء في يده، ينتظر أن يستيقظ والداه، وأولاده يبكون عند رجليه، يريدون طعامهم، وظل على هذه الحال حتى طلع الفجر.
وأما الثاني فتوسل بخوفه من الله، وعفته عن الحرام والفاحشة، مع قدرته عليها، وتيسر أسبابها، فذكر أنه كانت له ابنة عم يحبها حبا شديدا، فراودها عن نفسها مرارا، ولكنها كانت تأبى في كل مرة، حتى أصابتها حاجة ماسة في سنة من السنين.
فاضطرت إلى أن توافقه على طلبه مقابل مبلغ من المال، تدفع به تلك الحاجة التي ألمت بها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته، تحرك في قلبها داعي الإيمان والخوف من الله، فذكرته بالله في هذا الموطن، فقام عنها خائفا وجلا، وترك المال الذي أعطاها.
وأما الثالث فتوسل بأمانته وحفظه لحقوق الآخرين، حيث ذكر أنه استأجر أجيرا ليعمل له عملا من الأعمال، وكانت أجرته شيئا من الأرز، فلما قضى الأجير عمله عرض عليه الرجل أجره، فتركه وزهد فيه.
وعلى الرغم من أن ذمة الرجل قد برئت بذلك، إلا أنه حفظ له ماله وثمره ونماه، حتى أصبح مالا كثيرا، جمع منه بقراً مع راعيها، فجاءه الأجير بعد مدة طويلة، يطلب منه أجره الذي تركه، فأعطاه كل ما جمعه له من المال.
وكان كلما ذكر واحد منهم عمله انفرجت الصخرة قليلا ,حتى أتم الثالث دعاءه، فانفرجت الصخرة بالكلية وخرجوا يمشون.
إن هذه القصة ترسم للمسلم طريق الخلاص والنجاة إذا اشتد به الكرب ونزل به البلاء ، وهو الالتجاء إلى الله جل وعلا ودعاؤه، فهو القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
كما أنها تؤكد على أثر الإخلاص وابتغاء وجه الله، في تفريج الكربات، وقبول الأعمال، وأنه سبحانه يمد المخلص بعونه وتأييده، ولا يتخلى عنه إذا حلت بساحته الخطوب، وأحاطت به الشدائد والكروب، ولذا بدأ الإمام المنذري كتابه " الترغيب والترهيب " بباب سماه " الترغيب في الإخلاص والصدق والنية الصالحة "، وجعل أول حديث في كتابه حديث "أصحاب الغار".
وهي أيضاً تبين ضرورة أن يكون للإنسان رصيد من عمل صالح في وقت الرخاء ينجيه الله به حال الشدة والبلاء، فقد أنجى الله هؤلاء الثلاثة وكشف ما بهم بما سبق لهم من الخير والفضل والإحسان {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} (الطلاق 2) .
ومن خلال هذه القصة ندرك كذلك مدى تأثير الفقر والحاجة في إشاعة الفاحشة ونشر الرذيلة، فتلك المرأة التي تحدث عنها الحديث لم يكن لديها أي رغبة في الانحراف بدليل أنها رفضت في المرة الأولى أن تمكن ابن عمها من نفسها.
وخوفته بالله في المرة الثانية، ولكن الحاجة هي التي دفعتها لأن تتنازل عن أعز ما تملك، ومن أجل ذلك حارب الإسلام الفقر بشتى الطرق والوسائل، وجعل للفقراء نصيباً في أموال الأغنياء، وما الزكوات والصدقات والكفارات والنذور في وجه من وجوهها إلا لتحسين وضع الفقراء في الأمة، و دفع غوائل الفاقة عنهم.
وأخيراً فإن هذه القصة قد أرست أصول الأخلاق والعلاقات الاجتماعية بين الناس، والتي إن شاعت في مجتمع ما، ارتفعت به إلى أعلى درجات الرقي، وأسمى مراتب الكمال، وهذه الأخلاق هي البر والعفة والأمانة، فالبر والصلة هو الذي ينبغي أن يحوط علاقة المرء مع أقاربه وأرحامه.
والعفة والطهارة هي التي ينبغي أن تبنى العلاقات الاجتماعية على أساسها، ثم الأمانة وحفظ الحقوق هي التي يجب أن تقوم عليها التعاملات التجارية والمالية، وبغير هذه الأخلاق تتفكك المجتمعات، ويكون مصيرها الدمار والخراب.
ولذلك لخص أبو سفيان دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم- لأصول الأخلاق، حين سأله هرقل، وقال له: فماذا يأمركم؟ قال: " ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة " رواه البخاري.
المصدر: موقع إسلام ويب